إذا ذكر التاسع من كانون أول (ديسمبر), استذكر الشعب الفلسطيني شيوخه ونساءه وشبابه, وشاباته, وأطفاله, ذكرى انطلاق الانتفاضة الفلسطينية عام 1987م, وحقّ لهم أن يتذكروا ذلك التاريخ المجيد الذي غير موازين كثيرة وحطم حجر الطفل الفلسطيني اسطورة الجيش الذي لا يهزم, واخترق نظرية الأمن الصهيونية, وعبث بها بحجره ومقلاعه , وضحك على الجنود المدججين بالسلاح, وهم يلهثون, وهم يجرون خلفه لأنه قذفهم أو ورجمهم بحجر.
حقَّ للشعب الفلسطيني أن يستذكر الانتفاضة, وقد قدّم خلالها (1392) شهيداً, وحوالي (121 ألف) جريح, و(489) مبعداً, وما يزيد عن (160) ألف معتقل وهدم الاحتلال خلالها (2401) منزل في قطاع غزة والضفة.
فلم يعد بيتٌ يخلو من مصيبة, أو أكثر, فحقّ للجميع أن يستذكر ذلك اليوم (الكارثة, والبطولة)؛ كارثة الإجرام الصهيوني, والبطولة الفلسطينية ومواصلة المشوار رغم كثرة التضحيات.
لكن المحزن فعلاً, والمخجل أيضاً, أن لا يستذكر الشعب الفلسطيني, والعرب, والمسلمون, أن اليوم ذاته (التاسع من كانون أول/ ديسمبر) هو ذكرى أليمة على قلوب كل المسلمين والعرب والفلسطينين, ففي ذلك اليوم من عام 1917م, احتلت الجيوش البريطانية مدينة القدس وبعد ذلك بيومين اثنين (11/12/1917م) دخل الجنرال (أدمون اللنبي) القدس, وقال بصلف وتكبّر: "الآن انتهت الحروب الصليبية".
كانت القوات البريطانية قد حاولت في آذار(مارس), ونيسان (إبريل) عام 1917م, احتلال غزة, لكن الجنزال موراي فشل في المعركتين, وصمدت غزة بحاميتها العثمانية, وإزاء فشل موراي, أرسلت بريطانيا الجنرال أدمون اللنبي لاحتلال الشام بديلاً عن موراي, وفي احتفال وداعي في لندن دعاه لويد جورج إلى الاهتمام بالقدس, وأن يسعى إلى تقديمها هدية (للأمة البريطانية) في عيد الميلاد لذلك العام..
تمكن اللنبي من احتلال غزة ما بين 2-6 تشرين ثان نوفمبر 1917م, ثم تحركت قواته شمالاً, واستولت على عسقلان في 9/11, واحتلت يافا في 17/11 ثم تحركت قواته من يافا تجاه الداخل, متوجهة نحو القدس وكان الهجوم الأول ما بين 19-24 تشرين ثان (نوفمبر) 1917م, وخلال ذلك الهجوم عانى الجيش كثيراً أثناء تقدمه من يافا صوب القدس, فقد كان الجو بارداً وممطراً والضباب كثيفاً, وكان العثمانيون قد خربوا الطريق بين يافا والقدس في أكثر من موضع, لكن البريطانيين رغم الصعوبات وصلوا إلى محور البيرة – بيت عور التحتا, حتى وصلوا إلى بلدة (ساريس) غرب القدس, واحتلوها, كما احتلوا قرية العنب, والبيرة, والنبي صموئيل.
وفي 24 تشرين ثاني (نوفمبر) 1917م أمر الجنرال اللبني جيشه بالاحتفاظ بالمواقع التي سيطر عليها, وأن يتخذ وضع الدفاع عنها, حتى تصل إمدادات وتعزيزات لازمة لاستئناف الهجوم, وبالفعل قام بعدة تغيرات في مواضع الفيالق والفرق والمشاركة في المعركة وخلال الفترة ما بين 27 تشرين ثان (نوفمبر) و3 كانون أول (ديسمبر) جرى قتال مواقع بين الفريقين البريطاني والعثماني في بيت عور الفوقا, ومنطقة البرج جنوب شالتا, والنبي صموئيل, وبيت عور التحتا.
كانت خطة الهجوم الثانية على القدس ما بين 7-9 كانون أول (ديسمبر) 1917م, وتمثلت في:
1) شن الفرقة (74) هجوماً من شمال القدس على محور طريق النبي صموئيل شرق القدس.
2) تقوم الفرقة العاشرة بدعم الفرقة 74 وتغطية جناحها الأيمن بالنار عند تقدمها.
3) الفرقة (53) تشن هجوماً من جنوب القدس على محور الخليل- شرق بيت لحم -شرق القدس.
4) الفرقة (60) تشن هجوماً من غرب القدس على محور العنب شرق القدس.
وفعلاً بدأ الهجوم في الوقت المحدد, واحتلت الفرقة 60 (وادي الصرار) واستولت على التلال الكائنة جنوب (عين كارم) جنوب غرب القدس, واستولت الفرقة 74 على بيت إكسا, وهاجمت الفرقة 60 بلدة دير ياسين واحتلتها, ووصلت 53 إلى بيت جالا شمال غربي بيت لحم, وهكذا أصبحت القدس مطوقة من ثلاث جهات هي الشمال والغرب والجنوب.
عندها أيقن العثمانيون أن القدس ستسقط في يد الجيش البريطاني لا محالة,فاستدعى المتصرف العثماني (عزت بيك) كلاً من مفتي المدينة (كامل أفندي الحسنيي), ورئيس بلديتها (حسين بيك الحسيني) وسلمها وثيقة التسليم باللغة التركية ليوصلاها إلى القيادة البريطانية ومما جاء فيها "فالحكومة العثمانية, رغبة منها في المحافظة على الأماكن الدينية من الخراب, قد سحبت القوة العسكرية من المدينة, أقامت موظفين للمحافظة على الأماكن الدينية كالقيامة والمسجد الأقصى, وعلى أمل أن تكون المعاملة من قبلكم على هذا الوجه" .
وأوصل المفتي ورئيس البلدية الوثيقة للجيش البريطاني, ودخل القدس بعد انسحاب القوات العثمانية منها, وكان ذلك في الساعة العاشرة والنصف صباحاً أما اللبي فقد دخل المدينة في الحادي عشر من الشهر نفسه من باب يافا, وتسلم وثيقة الاستسلام, وقال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"