خواطر من وحي آيات البصر
الأستاذ الدكتور عفيفي محمود عفيفي
يقول سبحانه في الآية الثالثة والعشرين من سورة الملك
قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون (.
ويقول عز من قائل في الآية السادسة والثلاثين من سورة الإسراء:
)إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً (.
وهناك آيات أخرى تعد بالعشرات، تقرن بين السمع والبصر.. وأول ما يلفت النظر فيها هو ذكر السمع قبل البصر، مع أن البصر لا يقل عن السمع أهمية، وقد يفوقه في الأهمية أحياناً. وقد سبقنا إلى هذه الملاحظة كثيرون، وتولى المهتمون بالإعجاز العلمي للقرآن شرح السبب في هذا الترتيب القرآني، وأثبتوا أنه مطابق للترتيب الزمني لتكامل حاستي السمع والبصر في الإنسان، فبينما يصبح الجنين سميعاً وهو في الشهر الثالث من الحمل، نراه لا يصبح بصيراً إلا بعد الولادة بحوالي أسبوعين.. وإذا كان لي أن أضيف شيئاً فهو شرح حكمة الخالق وراء ذلك الترتيب: فاكتمال حاسة السمع في هذا الطور المبكر يعطي الجنين فرصة الاستماع إلى دقات قلب أمه فترة كافية تجعله يستوعبها تماماً بحيث يتذكرها بعد الولادة كلما ضمته إلى صدرها، وبهذا يهدأ ويطمئن إلى حضنها خصوصاً في وقت الإرضاع.. وبديهي أن الطمأنينة هي من أهم دواعي رفع مستوى الاستفادة التغذوية.. على عكس ما كان يمكن أن يحدث لو تأخرت حاسة السمع إلى ما بعد الولادة فيفاجأ الرضيع بصوت لم يسبق له سماعه يشبه قرع الطبول ينبعث من صدر أمه ويُصَب في أذنه مباشرة.. هذا عن حاسة السمع... وأما حاسة البصر فإن أعضاء الإبصار لا تمارس وظائفها إطلاقاً طوال الحياة الجنينية ـ رغم اكتمال تكوينها ـ لسبب بسيط هو انعدام الضوء اللازم لنقل صور المرئيات.. فضلاً عن أن الجنين ليس في حاجة إلى ممارستها أصلاً.. ولهذا فإن جفونه تظل مغلقة لحماية العينين من السائل الرهلي الذي يغمر أصلاً.. ولهذا فإن جفونه تظل مغلقة لحماية العينين من السائل الرهلي الذي يغمر جسمه... وهو لا يبدأ فتح جفونه إلا بعد خروجه إلى عالم النور حيث يكون لأشعة الضوء أثرها في تنبيه أعضاء جهاز الإبصار إلى بدء ممارسة وظائفها ثم في تحسين هذا الأداء تدريجياً بالتكيف مع شدة الضوء وأبعاد المرئيات.
· وإذا كنت ـ بحمد الله ـ لم أجد صعوبة في العثور على الأسانيد العلمية لهذا الترتيب بين السمع والبصر في عشرات الآيات التي تقرن بينهما.. فإن الآيات التي تختص البصر وحده بالذكر كان لي معها وكان لها معي شأن آخر..
· وأول ما استوقفني وحيّرني في عشرات الآيات التي تخص حاسة الإبصار بالذكر هو اختلاف اللفظ المستعمل للتعبير عنها: فهو أحياناً يكون مشتقاً من لفظ ( بصر )، وأحياناً أخرى من لفظ ( رأى )... وفي أحيان أخرى من لفظ: ( نظر )..
وإليكم مثالاً لكل حالة:
· فالتعبير بلفظ الأصالة ( بصر ) يتمثل في قوله تعالى على لسان السامريّ مخاطباً نبي الله موسى عليه السلام بعد دعوته من لقاء ربه ( الآية السادسة والتسعين من سورة طه ).
)قال بصرت بما لم يبصروا به (.
· والتعبير بلفظ: ( نظر ) يتمثل في الآية 101 من سورة يونس:
)قل انظروا ماذا في السماوات والأرض (.
· والتعبير بلفظ: ( رأى ) يتمثل في الآية الخامسة من سورة الحج:
)وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت (.
والألفاظ الثلاثة مختلفة تماماً في البنية اللغوية وليس بينها حرف واحد مشترك سوى حرف الراء.. كما أنها ليست من المترادفات بحيث يصح استعمال أي لفظ منها مكان أي لفظ آخر دون الإخلال بالمعنى... فهذا خطأ يتنزه كلام الله عن مجرد التعرض للقليل منه.. وليس صحيحاً أن استعمال الألفاظ الثلاثة هو من قبيل التنويع الدال على الثراء اللفظي، خصوصاً إذا وردت مجتمعة في آية واحدة كما في الآية 198 من سورة الأعراف:
)وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (.
فالقارىء المتدبر لا بد وأن يستكشف وراء هذا التنويع اللفظي وظيفة أهم هي دقة التعبير عن خصوصية المعنى.. ولكي يتحقق لنا ذلك نستعرض معاً أهم الحقائق العلمية الأساسية:
1ـ إن وظيفة الإبصار (vision)عملية مركبة من شقين متكاملين هما: النظر (looking)وتقوم به العين والرؤية (sight)ويقوم بها مركز عصبي خاص في قشرة المخ (الدماغ brain) وهو متصل بشبكية العين عن طريق العصب البصري.. وبقيام هذا المركز بإدراك ما يرد إليه من الشبكية تتم عملية الإبصار ( ولهذا فهو يسمى أيضاً مركز الإبصار center of vision)..ومن الممكن إذن تعريف عملية الإبصار بأنها: ( الإدراك الحسي لمعالم المرئيات ذات الكيان المادي بعد النظر إليها في الضوء ).
آلية عمل العين تشبه آلية عمل آلة التصور ولكن أشد تعقيداً
2ـ أن الصور التي تسقط على الشبكية لا تنطبع عليها مثلما تنطبع الصورة الفوتوغرافية على سطح ( الفيلم الخام )، ولا حتى على الورق الحساس بعد ( تحميض ) الفيلم.. وإنما تنتقل فوراً ـ على شكل ومضات عصبية ـ عبر العصب البصري لتصل بسرعة لحظية إلى مركز الرؤية.. ولكنها ـ هنا أيضاً ـ لا تتراكم وإنما يتم ترحيلها أولاً بأول إلى مركز عصبي آخر في المخ ( متصل عضوياً بمركز الإبصار ) حيث يتم تصنيفها و( فهرستها ) وحفظها في ( أرشيف الكتروني ).. ( والقياس مع الفارق ).
3ـ أن المخ قادر على استحضارأي عدد من تلك الصور المخزونة في أي وقت لا حق بحيث يقوم مركز الرؤية بإعادة مشاهدتها أي استعراضها بعد زوال الأجسام التي تمثلها بوقت يتناسب عكسياً مع قوة الملاحظة والقدرة على الاستيعاب والتذكر.
4ـ أن التكامل الوظيفي بين العين والمخفي إتمام عملية الإبصار لا يمنع من أن يقوم كل منهما ـ في أي وقت ـ بعمله مستقلاً عن الآخر ( مع اختلاف النتيجة وفقاً للجزء الذي يعمل).
هناك تكامل وظيفي بين العين والدماغ للقيام بعملية الإبصار
نظر بلا رؤية؟ أو رؤية بلا نظر؟.
وبناء على تلك الحقائق الأساسية فإن عملية الإبصار لا تتم إذا انعدام أحد شقيها.. ولكن الشق الذي يتم أداؤه يأخذ شكل ظاهرة غير مألوفة لأنها تمثل عملية فسيولوجية ناقصة.
والظاهرتان المحتملتان كنتيجة لهذا الانفصال الأدائي بين العين والمخ هما:
النظر بلا رؤية:وهنا يحدّق الناظر بعينين سليمتين مفتوحتين في الجسم الموضوع أمامهما ـ مغموراً في الضوء ـ ولكن الناظر إذا سئل عما أمامه لأنكر أن أمامه شيئاً على الإطلاق ( وهو في ذلك صادق لأنه بالفعل لا يبصر شيئاً بسبب عدم قيام مركز الإبصار بعمله في وقت النظر ).. والنظر بلا رؤية ـ وبالتالي بلا إبصار ـ يحدث عندما يكون الناظر شارد الذهن أو في حالة رعب شديد مفاجىء أو واقعاً تحت تأثير الخمور أو المخدرات... فكل هذه تسبب عطلاً مؤقتاً لخلايا المراكز العصبية في المخ ( بما فيها مركز الأبصار ).. والنتيجة هي حالة عمى مؤقت يزول بزوال أسبابه.. أما إذا أصيبت خلايا مركز الإبصار بتلف عضوي فالنتيجة هي العمى الدائم ( على الرغم من سلامة العينين ).... والعمى الدائم يمكن أن يحدث أيضاً رغم سلامة العينين وسلامة مركز الرؤية أيضاً وذلك في حالة تلف العصب البصري.. والسبب في هذه الحالة هو أن عملية الإبصار تتوقف عند الحد الفاصل بين النظر والرؤية ( أي: أن الصورة الواقعة على الشبكية لا تجد ما ينقلها إلى مركز الرؤية ).
وحالات النظر بلا رؤية معناها عدم القدرة على الإبصار بسبب انعدام الركن الفعلي أو الإدراكي وهو الرؤية... تماماً مثلما أن الصورة الفوتوغرافية تظل خافية على الفيلم الخام ما لم يتم ( تحميضه ). [ وبالمناسبة هذه العملية التي نسميها ( تحميضاً ) يطلق عليها في لغات أخرى غير عربية اسم آخر أكثر دقة في التعبير عن طبيعتها هو (development) بالإنجليزية أو (entwicklung)بالألمانية ومعنى الكلمتين بالعربية هو تكوين.. وهو نفس اللفظ المستعمل علمياً في جميع اللغات للتعبير عن عملية تخليق الجنين في ظلمات الرحم ].
الرؤية بلا نظر:وهي تحدث نتيجة عطل في عضو النظر ( العين )، أو عضو نقل الصورة ( العصب البصري ).. أو كليهما، بشرط بقاء المراكز العصبية ( وأولها مركز الإبصار ) سليمة عضوياً ووظيفياً... والرؤية بلا نظر يمكن أن تحدث أيضاً رغم عدم وجود ما يمكن النظر إليه أصلاً.. وذلك باستحضار بعض المشاهد القديمة من الرصيد المخزون من عمليات إبصار سابقة، وهذا يدخل في باب ( أحلام اليقظة ).. قياساً على الأحلام التي ( نراها ) أثناء النوم...
وللتعليل على انعدام ركن النظر ( وبالتالي انعدام أهمية العين ) في هذه الأحوال، يكفي أن أذكر بأن استحضار المشاهد القديمة يتم بصورة أفضل إذا أغمض المرء عينيه. لأنه عند فتح العينين فإن ما تقعان عليه من ( منظورات ) تتداخل صورها مع الصور التي يستحضرها المخ ( وهي مجرد مرئيات )... ولهذا يحدث ( تشويش ) على مركز الرؤية.
من وحي آيات البصر:
والآن إلى النصوص القرآنية التي تتحدث عن النظر والبصر والرؤية نتدبرها في ضوء هذه الحقائق العلمية الثابتة ونبدأ بنص قرآني يتضمن لفظ ( بصر ) بمعناه البيولوجي الكامل: ذلك هو الآية الحادية عشرة من سورة القصص حيث يقول عز وجل على لسان أم موسى:
)وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (.
الموقف هنا حدثت فيه عملية إبصار تامة الأركان: فأخت موسى أولاً قامت بالنظر هنا وهناك بحثاً عن أخيها الطفل المنشود والذي سبق لها النظر إليه ورؤيته وبالتالي إبصاره، فلما وقعت عيناها عليه في هذا المكان الجديد تكونت له في مخها صورة مطابقة لتلك التي اختزنها عقلها الباطن في مرات سابقة... فتعرفت عليه... أما والحالة هذه فأي الألفاظ الثلاثة ـ تعبيراً عن هذا الموقف؟ لا شك هو لفظ ( بصر ) الذي ورد في النص القرآني للتعبير في إيجاز معجز عن اكتمال أركان عملية الإبصار...
وفي الآية الثلاثين من سورة النور يقول سبحانه وتعالى:
)قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم (.
والأبصار المذكورة هنا والمأمور بغضها ( أي: خفضها ) هي العيون التي هي النوافذ التي نطل منها على الموجودات.. والعين ـ علمياً ـ هي عضو النظر... فلماذا لم يستعمل لفظ الأنظار واستعمل بدلاً منه لفظ الأبصار؟ لو اقتصرنا على الجانب اللغوي لقلنا إن هذا نوع من البلاغة التي يستعمل فيها ما سوف يكون محل ما هو كائن ( على غرار قوله تعالى في سورة يوسف: )إني أراني أعصر خمراً ()... ولكن هذه البلاغة لها أيضاً سند علمي إذ إن النظر هو بوابة البصر، ومنع عملية الإبصار يتم بسهولة أكبر لو بدأنا بإغلاق الباب المؤدي إليه وهو العين... ومن مظاهر عدالة الله أن جميع العضلات المتحكمة في تحريك كرة العين وفي فتح الجفون وإغلاقها هي من النوع الإرادي الخاضع لسيطرة المخ وهو الذي يحوي مركز الإبصار كما يحوي مراكز الحركة أي أنه هو المتحكم الفعلي في حركة تلك البوابات التي تنفذ عن طريقها صور المرئيات إلى المخ ومن ثم يتحول النظر المجرد إلى إبصار فعلي... إذن فالأمر بالغض في آية سورة النور مقصود به الأصل والمنبع تجنباً للشر من أول الطريق المؤدية إليه...
من وحي آيات النظر:
من حيث إن عملية الإبصار هي محصلة خطوتين هما النظر والرؤية... لهذا فإن الدقة العلمية لا تتوفر أركانها إلا إذا استعمل كل من هذين اللفظين للتعبير عن الخطوة المقصودة بالذات.. فتعالوا بنا نستعرض بعض النصوص القرآنية لنرى كيف أن كلاًّ من اللفظين ( نظر ) أو (رأى ) قد استعمل بإحكام للتعبير عن الجزء الذي يخصه من عملية الإبصار.
هذا فيما يتعلق بالشق الأول وهو ( النظر )... والنظر كما نعرف جميعاً قد يكون خاطفاً وقد يطول بهدف تأمل المنظور ( إما لدراسته أو للاستمتاع بمنظره )... كما أن النظر قد يكون مقروناً بالتدبر وقد لا يكون.. وكل هذه الأحوال عبّر عنها القرآن الكريم في مواضع عديدة متفرقة وإليكم بعض الأمثلة:
يقول سبحانه وتعالى في الآية الثامنة والثمانين من سورة الصافات:
)فنظر نظرة في النجوم (.
( والحديث عن خليل الله إبراهيم عليه السلام بعد طول جداله مع قومه حول قضية الإيمان ).
وفي الآية رقم 101 من سورة يونس يقول جل وعلا:
)قل انظروا ماذا في السماوات والأرض (.
أما في الآية السابعة عشرة من سورة الغاشية فيقول عز من قائل:
)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (.
إن الهدف من النظر في هذه الحالات الثلاث هو تأمل خلق الله واستشعار عظمته... وهذا هو شأن من أراد الله لهم الهدى.. أما النظر بلا تفكير فهو غفلة يتصف بها من عطلوا عقولهم شأن كفار قريش الذين أغلقوا قلوبهم فختم الله عليها، وعنهم يقول سبحانه وتعالى ـ مواسياً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ـ في الآية رقم 198 من سورة الأعراف:
)وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (.
مع ملاحظة أن البصر في هذه الآية ليس البصر الحسي وإنما هو مقصود بمدلوله المعنوي وهو البصيرة التي بها يمكن التمييز بين الحق والباطل.
· ونعود إلى النظر بمعناه الحسي المجرد فنقول: إن إدامته إلى ما حرم الله إثم وإلى ما يصرف عن ذكر الله لهو...
أما إدامته إلى ما أحل الله تعالى بهدف التلذذ برؤية الجمال فهو مباح.
ـ يقول سبحانه وتعالى في الآية رقم 143 من سورة الأعراف:
)ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني (.
ذلك لأن الناموس الساري في الحياة الدنيا هو أن الله لا تدركه الأبصار، وهي صفة خاصة بذاته العلية ولكن يسبغها الله على من يرتضى من عباده إذا كان في معيته.. ولعل هذه المعية هي التي أعمت أبصار كفار قريش الواقفين على باب غار ثور وبداخله محمد الذي يبحثون عنه ومعه رفيقه الصديق قبيل انطلاقهما إلى المدينة.. يقول سبحانه وتعالى في الآية الأربعين من سورة التوبة:
)ثاني اثنين إذ هما في الغار إذا يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا (.
بهذه المعية مع الله لم تدرك أبصار كفار قريش ضالتهم المنشودة وهي قريبة من أرجل خيلهم... وهذه المعية نفسها هي التي أعمت أبصارهم عنه فمحمد يوم خروجه من داره بمكة وهو يمر من بين صفوفهم وأمام أعينهم مردداً قوله تعالى: ( الآية التاسعة من سورة يس ):
)وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون (.
وعموماً فنحن في كلتا الحالتين أمام معجزة تتعطل أمامها كل القوانين السارية في الأحوال العادية.
بيولوجية الرؤية في القرآن:
عرفنا منذ قليل أن الرؤية هي الخطوة التالية للنظر، وأنها هي التي تتم بها عملية الإبصار.. فهي إذن الخطوة الحاسمة.. ونظراً لأهميتها فإن القرآن كثيراً ما يعطي لفظ ( رأى ) ومشتقاته الأولوية في التعبير عن عملية الإبصار كلها... خصوصاً إذا كان الهدف الرئيسي منها هو التدبر والاعتبار... وهذا التفضيل يتناسب مع كون الرؤية من الوظائف العليا التي يقوم بها المخ الإرادي وهو المتحكم في الجوارح والتصرفات... وإليكم بعض الأمثلة الدالة على ما أقول:
ففي الآية السادسة والسبعين من سورة الأنعام يقول رب العزة عن رحلة خليله إبراهيم عليه السلام مع الإيمان:
)فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (.
وفي الآيتين التاليتين في نفس السورة يتكرر استعمال لفظ ( رأى ) نائباً عن اللفظين الآخرين في التعبير عن عملية الإبصار.. وهذا مناسب لكون الهدف منها هو إثبات قضية عقلية.
وفي سورة النمل أكثر من آية استعمل فيها لفظ ( رأى ) تفضيلاً له على لفظ ( نظر ) لأهميته ودقته في التعبير عن الجزئية المقصودة من عملية الإبصار... ففي الآية العشرين يقول سبحانه:
)وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (.
من المؤكد:أن نبي الله سليمان قد استخدم عينيه في النظر هنا وهناك بحثاً عن الهدهد المنشود ـ قبل أن يصرح بعدم رؤيته. وأنه ـ عليه السلام ـ وهو يتفقد الطير كان يستحضر في ذهنه صورة الهدهد الغائب، وهي التي عرفها واستوعبها من عمليات إبصار سابقة.. وهذا الاستحضار هو عملية ذهنية خالصة يقوم بها مركز الرؤية.. ولهذا كان لفظ ( رأى ) أدق من أي من اللفظين الآخرين في التعبير عن هذا الموقف الذي يبدو مثل موقف أخت موسى في البحث عن شيء منشود.. ولكن في حالة أخت موسى كان المنشود موجوداً فنظرته وبالتالي أبصرته ( ولهذا استعمل القرآن لفظ البصر في قوله تعالى: )فبصرت به (أما هنا فالشيء المنشود ـ وهو الهدهد ـ ليس له وجود أي: أن النظر لم يحقق وظيفته وبالتالي لم تتم عملية الإبصار... ولم يبق إلا اللفظ الثالث الذي استعمل هنا في موضعه تماماً: )ما لي لا أرى الهدهد (.
وفي الآية الثامنة والثلاثين وما بعدها من سورة النمل يأتي ذكر عرش ملكة سبأ الذي تم نقله من مكانه في اليمن إلى مجلس سليمان في الشام في أقل من طرفة عين... وطرفة العين هي المدة الزمنية اللازمة لإلقاء نظرة واحدة.. وتعبيراً عن هذه السرعة الخارقة كان هذا الإيجاز الخاطف في التعبير متمثلاً في قوله تعالى في الآية الأربعين:
)قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي (.
هنا نلاحظ ما يمكن أن نسميه ( تجسيداً بلاغياً ) للسرعة وهو يتمثل في إغفال ذكر جميع الأحداث التي تمت منذ تعهد المتكلم بإحضار العرش إلى أن رآه سليمان عليه السلام مستقراً أمامه يعني: رآه شيئاً مادياً ملموساً أمام عينيه ... ولا شك: في أنه قد ألقى عليه نظرة ( بل وربما نظرات ) ليتأمله ( خصوصاً وهو يراه لأول مرة )... ولكن التعبير القرآني أغفل عملية النظر تماماً، وتخطى هذه المرحلة ليصل بنا رأساً إلى ما بعدها وهي الرؤية التي تمت بها عملية الإبصار. وهنا يا إخواني أرجو ألا أكون بهذا التحليل قد اجترأت على قدرة الله التي يتحقق جزء ضئيل منها بصورة تذهل عقولنا عندما تحدث المعجزات الخارقة لكل قوانين الطبيعة.
الرؤى... والأحلام:
وقبل أن نختتم الحديث عن الرؤية كإحدى وظائف المخ لا يفوتنا التحدث عن إحدى صورها المذكورة بكثرة في القرآن الكريم.. تلك هي الرؤية المنامية أي: ( الرؤيا )... وهي ما نعبر عنها عادة بالأحلام حيث يقتصر العمل على ما يقوم به العقل الباطن الذي ينشط عند ضعف السيطرة على الجوارح، ولا تستعمل العين كعضو نظر ( بل لا إمكانية أصلاً لقياسها بهذه الوظيفة فإغلاق الجفون من الأعمال المصاحبة للنوم ).
وتتصدر سورة يوسف جميع سور القرآن من حيث عدد الآيات التي ورد فيها ذكر الرؤى المنامية والتي نذكر منها ثلاث نصوص، تكرر التعبير فيها عن الحدث بلفظ: ( رأى ).
وتقول الآية الرابعة من سورة يوسف:
)إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً (.
وتقول الآية السادسة والثلاثون:
)ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما: إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي حبزاً تأكل الطير منه (.
وتقول الآية الثالثة والأربعون:
)وقال الملك: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف (.
وفي سورة أخرى هي سورة الصافات تقص علينا الآية الثانية بعد المئة موقف خليل الله إبراهيم مع ابنه:
)فلما بلغ معه السعي قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك (.ففي هذه النصوص القرآنية كلها كما في غيرها من النصوص التي تتحدث عن الأحلام كان استعمال لفظ رأى تعبيراً دقيقاً عن حقيقة الأحلام بوصفها استحضاراً لمشاهد قديمة مختزنة في الذاكرة وإعادة مشاهدتها بواسطة مركز الرؤية في المخ دون حاجة إلى عضو النظر... لأن كل مشاهد الأحلام إنما هي مرئيات مجردة ليس لها كيان مادي مجسم يمكن النظر إليه، ومن ثم ألغيت عملية النظر وبالتالي لا يحدث إبصار...
هذه هي بعض الخواطر البيولوجية التي سنحت لي وأنا أتدبر معاني كلام الله سبحانه وتعالى في مجال الإبصار بشقيها الرئيسيين ( النظر والرؤية ) بوصف أن حاسة البصر هي من أعظم نعم الله علينا...
نحمد الله الذي خلقنا في أحسن تقويم، وصورنا فأحسن صورنا، والذي جعل عيوننا نوافذ نطل منها على عالم الموجودات التي أبدعتها يداه سبحانه وتعالى... ونسأله أن يتم نعمته علينا بأن ينير بصائرنا كما أنار أبصارنا... فهو وحده نور السماوات والأرض، وهو الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار... والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...